الأحد، 24 أغسطس 2014

ارتسامات



نقتبس مقولات من كتاب بعنوان ( ارتسامات )، 
والكتاب يحمل في طياته 51 موضوعاً، فيها النصائح والفوائد، 
لمؤلفها د. محمد إبراهيم الحمد – وفقه الله – 
يقول في مقدم : 
( وما في صفحات هذا الكتاب، إنما هي ارتساماتٌ علقت في الذهن، ونتجت عن قراءة، أو تأمل، أو تحليل لظاهرة، أو بحث في قضية، أو نظرة في مجريات الحياة، فرغبت في تقييدها ونشرها

وكم مالئ عينيه هذا جزء من شطر بيت لعمر بن أبي ربيعة، يقول فيه: وكم مالئٍ عينيه من شيء غيره -- إذا راح نحو الجمرةِ البيضُ ومعنى البيت : كثير من الناس يُطلق بصره في النظر إلى النساء إذا ذهبن لرمي الجمار. وهو في هذا البيت يشير - على مذهبه الغزلي - إلى أن كثيراً من الناس يسْبِيْهِ التطلعُ إلى ما لا يمتلك، ويخص بذلك النظر إلى النساء الأجنبيات عنه. ولعل المعنى لا يقف عند حد النساء فحسب، بل يتعداه إلى أمور أخرى، فكثيراً من الناس يزهد بما في يديه، ويتطلع إلى ما عند غيره أيَّاً كان ذلك المُتَطَّلع إليه، فكم من أناس يقطعون المسافات لطلب العلم عند عالم وعندهم في بلدهم من يفوقه، ولكن زامر الحي لا يطرب، وأزهد الناس في العِالم أهله وجيرانه. وكم من الطلاب من يَدْرُسُ - على سبيل المثال - في كلية الشريعة وتراه يحرص كثيراً على طلب العلم، والسؤال عن طريقة الترقي فيه، وتجده يتطلع إلى كتب ليست مقررة عليه. وكم من الناس من يستشير البعيد عنه، ويزهد بالقريب منه من نحو والدٍ، أو قريب أو أستاذ مع أن أولئك من قد يفوق المستشار البعيد بمراحل، فأولى لهذا ثم أولى له ألا يزهد بمن عنده إلا إذا كان يستحي من مشورة القريب في بعض الأمور. وكم من الوالدين من يزهد بأولاده ولا يراهم أهلاً لأي مكرمة أو تحمُّلِ مسؤولية، مع أنهم يبلغون من الشهامة والفضل مبلغاً عظيماً. بل البعض لا يرى أي قيمة لأولاده إلا بعد أن يسمع ثناءً عليهم في محفل، أو إشادة بهم من أحد الناس. فهذه نبذة يسيرة وأمثلة قليلة في شأن من يملأ عينيه من شيء غيره، والأمر أوسع من ذلك وأعم. فالتطلع إلى ما في أيدي الآخرين مما يورث الحسرات والغموم، فحريٌّ بالعاقل أن يرضى بما عنده، وألا يمد عينيه إلى ما ليس له إليه سبيل. ومن أعظم ما يعين على ذلك لزوم القناعة، فإذا لزم العبد القناعة أشرقت عليه شموع السعادة. ومن يطعمِ النفسَ ما تشتهي -- كمن يطعم النار جزل الحطب قال الله تعالى : (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) قال أُبي بن كعب رضي الله عنه : ( من لم يعتز بعزة الله تَقَطَّعتْ نفسه، ومن يتبع بصره فيما في أيدي الناس يَطُلْ حُزنه، ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل علمه، وحضر عذابه) وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله
: ( أي : لا تمد عينيك معجبا ، ولا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والمُمَتَّعين بها ، من المآكل والمشارب اللذيذة ، والملابس الفاخرة ، والبيوت المزخرفة ، والنساء المجملة ، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا ، تبتهج بها نفوس المغترين ، وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين ، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون ، ثم تذهب سريعا ، وتمضي جميعا ، وتقتل محبيها وعشاقها ، فيندمون حيث لا تنفع الندامة ، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة ، وإنما جعلها الله فتنة واختبارا ، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها
، ومن هو أحسن عملا ) انتهى .

 التقليد في الكراهية يُحَدِّثُ أحد الناس عن صاحب له، فيقول : كان لي صاحبٌ يقع كثيراً في أحد الناس، ويضمر له العناء، وفي يوم من الأيام كنا واقفين عند إشارة المرور، فالتفتُّ وإذا بجانبي ذلك الرجل الذي يقع فيه صاحبي، فقلت لصاحبي : أتعرف هذا الرجل ؟ فقال : لا، فقلت ألم تراه قبل اليوم؟ قال : لا، فقلت : ما ظنك به وأنت تراه الآن؟ فقال : أرى فيه الوقار والهدوء. فقلت: هذا هو صاحبك الذي تقع فيه، وتبغضه، فهز الرأس، وفكر ملياً وكأنه بدأ يراجع حساباته. فقلت له : كيف يكون ذلك الصنيع، وأنت لا تعرفه؟ فقال: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت مثله. فهذه الحكاية واقعة، وأمثالها كثير، والناس فيها ما بين مقلٍّ ومستكثر. ولا ريب أن ذلك ضربٌ من التقليد الأعمى الذي يُضر بصاحبه من جهة اكتسابه الآثام من غير وجه حق، ويضر بالمجتمع من جهة أنه يفكك روابطه، ويفقد أهله الثقة فيما بينهم خصوصاً إذا كانت الوقيعة في الأكابر والأفاضل. والذي تقتضيه الديانة والمروءة والحكمة أن تتروَّى الإنسان فيما يسمعه من وقيعة في الناس، حتى لا يقع في الظلم والإثم. أما إذا كان ما يسمعه مدحاً وثناءً فلا لوم عليه إن قَبِلَ ذلك، لأنه لن يترتب عليه – في الأغلب – ظلمٌ ولا هضم. وخلاصةُ القول أنه : لا بأس أن تكون مقلداً في الحب، أما في البغض فلا يحسن بكَ إلا أن تكون مجتهداً مطلقاً. 

اكْسُ ألفاظك جاء في كتاب الفتح المغيث للسخاوي رحمه الله ما نصه :
 ( روينا عن المزني قال : سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول : فلان كذاب. فقال : يا أبا إبراهيم! اكْسُ ألفاظك أحسنها، لا تقل : فلان كذاب، ولكن قل : حديثه ليس بشيء) ففي هذا الخبر يرشد الإمام الحَبْر الشافعي رحمه الله إلى مسألة في الذوق في الكلام، ويلتفت الأنظار إلى أن يُلْبِس الإنسانُ ألفاظه أحسن الألبسة، فيصوغها بأسلوب رائع يجعلها خفيفةً على السمع، سهلة النفوذ إلى القلب، فقد يكون المعنى المراد إيصاله واحداً، ويكون ما بين تعبير وتعبير كما بين ذات الرَّجْع وذات الصدع. فقد تكون المعاني حاضرة في نفس المتكلم، فإذا عرضها في أسلوب باهتٍ أو منفرٍ لم تلْقَ القبول، بخلاف ما إذا عرضها في أسلوب بارع، فإنها حينئذٍ تقع موقع الإعجاب، حتى لكأنها معانٍ جديدةٌ لم يسبق للسامعٍ لها سابقُ علم بها. ومن كان كذلك حاز المكانة العليًّة وصار له المحل الأرفع في القلوب. جاء في كتب السير أن زبيدة لامت زوجها الرشيد على حُبِّه المأمونَ دون ولدها الأمين، فقال لها : الآن أريك عذري، فدعا ولدها الأمين – وكانت عند الرشيد مساويك – فقال له : يا محمد ما هذه؟ فقال : مساويك. ودعا المأمون، وقال له : ما هذه يا عبد الله؟ فقال : ضد محاسنك يا أمير المؤمنين. فقالت زبيدة : الآن بان لي عُذرك.!

 الاجترار الاجترار من خصائص بعض الدواب، فهي تأكل الطعام ثم تجتره بعد فترة. أما الآدمي فإنه يأكل مقدار ما يشبعه، ثم إذا احتاج إلى طعام أكل مرة أخرى، وهكذا دون أن يجتر الطعام، إذ إن ذلك ليس من خصائصه، ولم يُوْدعْ تلك الغريزة. ولكنه يجتر اجتراراً من نوع آخر، ألا وهو الاجترار الذهني. والناس في ذلك طبقات، فمنهم من يعود عليه اجتراره بالضرر، ومنهم من يعود عليه بالنفع. فهناك من هو مولع باجترار المآسي، والأخطاء، والمصائب، والأحداث الأليمة، فتراه دائماً يكررها على نفسه، وعلى من حوله. فإذا حدثت له – على سبيل المثال – مشكلة ثم انتهت بحل من الحلول، وأغلق بابها – لم يكتفِ بذلك، بل تراه دائم التذكير بها خصوصاً إذا حدثت مشكلة أخرى. واللائق بمثل هذه الأحوال أن إذا حدثت مشكلة جديدة أن يُسعى في حلها بعيداً عن أجواء المشكلة الأولى، حتى تهدأ النفوس. وتتهيأ لقبول الحلول طالما أن المشكلة الجديدة ليس لها ارتباط بالأولى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق